فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَرَبَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، اتَّقُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا حُدُودَهُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ لَكُمْ لِإِصْلَاحِ شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكُنْتُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ بِتَعَاوُنِ أَفْرَادِهِ، وَاتِّحَادِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِهِمْ حُقُوقَ بَعْضٍ. فَتَقْوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شُكْرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَفِيهَا تَرْقِيَةٌ لِوَحْدَتِكُمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعُرُوجٌ لِلْكَمَالِ فِيهَا. وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ فِي حُقُوقِ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِأَنْ تَصِلُوا الْأَرْحَامَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِوَصْلِهَا،، وَتَحْذَرُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ قَطْعِهَا، اتَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي تَقْوَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكُمُ الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِهِ تَسَاؤُلُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِحُقُوقِ الرَّحِمِ، وَمَا فِي هَذَا التَّسَاؤُلِ مِنْ الِاسْتِعْطَافِ، وَالْإِيلَافِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي هَاتَيْنِ الرَّابِطَتَيْنِ بَيْنَكُمْ: رَابِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَتَعْظِيمِ اسْمِهِ، وَرَابِطَةِ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا فَرَّطْتُمْ فِي ذَلِكَ أَفْسَدْتُمْ فِطْرَتَكُمْ، فَتَفْسَدُ الْبُيُوتُ وَالْعَشَائِرُ، وَالشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أَيْ مُشْرِفًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَمَنَاشِئِهَا مِنْ نُفُوسِكُمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُشَرِّعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيَعُدُّكُمْ بِهِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. الرَّقِيبُ: وَصْفٌ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ: رَقَبَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَمِنْهُ الْمَرْقَبُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُشْرِفُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا دُونَهُ. وَأُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ هُنَا مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَنَا هُنَا بِمُرَاقَبَتِهِ لَنَا لِتَنْبِيهِنَا إِلَى الْإِخْلَاصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَنَّ اللهَ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ مُرَاقِبٌ لِأَعْمَالِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَيَلْتَزِمَ حُدُودَهُ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ومعنى {اتَّقُواْ رَبَّكُم} أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟
أول التقوى أن تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه سبحانه يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} ولم يقل: اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، والرب هو: المتولى تربية الشىء، خلقًا من عدم وإمدادا من عدم، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة؟
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشئ الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكى تؤدوا مهمتكم في الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} إذن فالمطلوب منهم ان يتقوا، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه يقول: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له: إنك لم تخلقنا- ولله المثل الأعلى؟
أنت تسمع من يقول لك: أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد، فأراد سبحانه أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشئ الذي نؤمن به جميعا وهو أنه سبحانه خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة رب ولم يقل: اتقوا الله لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عُدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها: مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلى حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
لو لم يقل الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} لما كملت، لماذا؟ لأنه سيقول في آيات آخرى عن الإيجاد: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الذاريات: 49] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل في متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أي من نفس آدم؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا: لا، {مِنْهَا} تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين: حين يقول الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] أأخذالله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشرى، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه: {خَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها في آدم، أو المراد من قوله: {مِنْهَا} أي من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خُلقنا، وكيف جئنا؟
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء دارون وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون: إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول: هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] وما دام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجئ بادعاء علم فيقول: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا} معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا} فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق.
فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، والمضللون هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل. {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشئ إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية دارون وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي مونيه عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا، وقال: أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه ذكرا ثم توجد المصادفة شخصا نسميه أنثى ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني؟
كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشئ ذكرا كالأول أو ينشئ أنثى كالثاني؟ أي مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن مونيه- هداه الله إلى الإسلام وغفر له- أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له: إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وهذه هي العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه العالم الفرنسى مونيه أخيرا. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} وانظروا عظمة الأسلوب في قوله: {وَبَثَّ} أي نشر وسنقف عند كلمة نشر لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كى يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.
والنشر معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شيء مطوى وشئ آخر منشور، والشئ المطوى فيه تجمع، والشئ المنشور فيه تفريق وتوزيع، إذن فحيز الشئ المتجمع ضيق، وحيز الشئ المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي من آدم وحواء {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} واكتفى بأن يقول: {نِسَاءً} ولم يقل: كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة.
وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخيل، وكم أنثى؟ ستجد ذكرًا أو اثنين.
إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} فالذكورة هي العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر، والقرآن يأتى لينبهك إلى المعطيات في الألفاظ لأن المتكلم هو الله، ولكن إذا نظرت لقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي من آدم وحواء وهما اثنان {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو {بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالًا كثيرًا ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين كانوا مليونًا من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق: إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحدًا لا يأتي منه تكاثر، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان؟ لابد أن أحدًا خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ونأخذ من {بَثَّ} الانتشار ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول: نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين، والاثنان هذان كيف جاءا؟- إذن لابد أ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من غير شىء.